مناجم ومناجمنا:
استغلال وبطش وحيف...، على حساب جماجم العمال والبيئة السليمة (التدمير) والمناخ الصحي (التلوث)...
"الداخل مفقود والخارج مولود" عبارة ترددها ألسنة عمال المناجم. لكن لا أحد يستشعر معناها الحقيقي ولا وزنها أكثر من العمال المستغلين في أعماق الأرض، حيث شروط العمل الصحية والإنسانية منعدمة. يستغلون (بضم الياء) أكثر من ثماني ساعات في الأنفاق تحت الأرض، حيث يصل عمق بعضها لأكثر من ألف وأربعمائة متر. وإذا اقتضى الأمر ستة عشر ساعة في بيئة لن تتحمل الجلوس فيها ولو لساعة واحدة، فبالأحرى أن تقضيها في العمل، وبأجر زهيد جدا وبعقدة محددة مع مقاولات تعمل لصالح الشركة الأم وبحمايتها. و هذا كله بمقابل مذل لا يكفي حتى لنفقات الدواء، فكيف يكون كافيا لتكوين أسرة وإنجاب الأطفال وأداء واجب الكراء و... زد على ذلك كثرة الحوادث، سواء المميتة منها أو التي تؤدي إلى عاهات مستديمة والأمراض المهنية التي تصيب أكثر من خمسة وتسعين في المئة من العمال، إن لم تصب مئة في المئة منهم؛ بالمقابل يعانون من عدم التصريح ولا الاعتراف بها، بل مجرد التفكير في فضحها يعتبر من المحرمات أو من الخطوط الحمراء لدى الباطرونا. وحتى المؤسسات المخولة لها تأكيد ذلك أو نفي الإصابة بهذا المرض أو ذاك تكون لها صلة بالباطرونا وتحت رحمتها. وبالتالي "تقتنع" بأنك أحد من الأعداد الهائلة من ضحايا هذا الواقع المر، وأنك تعيش في غابة يسودها الافتراس. وكل يوم يمر في حياتك بدون ألم هو عيد ميلادك الجديد، زد على ذلك أن النقابات والتي من المفروض أن تقوم بمهامها بشأن التأطير والتنظيم والتثقيف تولد من رحم الباطرونا، أي أن الباطرونا هي التي تسهر على تأسيسها وتوجيهها وحمايتها من كل عامل أراد التمرد عليها. وتكون أداة لتلجيم أي حركة احتجاجية وإجهاضها، بما في ذلك تأسيس نقابة مناضلة أو حتى التفكير في ذلك. إن احتضان أي نقابة أو على الاقل الاعتراف بها يفرض السهر على حماية وخدمة مصالح الباطرونا أكثر من الباطرونا نفسها.
هذا الوضع المتأزم والمزري الذي عاشه ويعيشه الآلاف من عمال المناجم منذ الاستقلال الشكلي وما قبله إلى يومنا هذا، يقابله جني أرباح خيالية على حساب حياة وعرق جبين العمال، حيث تراكم الأرباح هو المحدد بالنسبة للباطرونا وأسيادها. والتصريح بهذه الأرباح يبقى من الأسرار الخفية وغير المكشوفة التي تؤطر فهم الرأسمالية للإنتاج ككمية الإنتاج نفسه.
سياسة الشركات الكبرى العملاقة ومنها مناجم في علاقتها دائما بالربح أكثر تعتمد على استغلال الشركات من الباطن أي (les sous traitantes) وهي شركات تعمل بعقود محددة ولصالح الشركة الأم والهدف منها هو:
استغلال هذه المقاولات أكثر، وبالتالي جني الأرباح أكثر، ثم الضغط على هذه المقاولات من أجل استغلال العمال أكثر، استغلال العمال بأقل أجر وبعقود محددة.
أما قبول العمال الاشتغال في بيئة ملوثة وفي ظل شروط عمل قاسية، فلأنهم مهددون بالتوقيف/الطرد في أي لحظة (يعملون بعقود محددة)،
فلاتسمح الشركة الأم للعمال بالاحتجاج لأنهم تابعون إداريا للمقاولات من الباطن، وتتنصل الشركة الأم من كل المشاكل التي يمكن أن تنجم عن الاستغلال البشع مثل حوادث الشغل. لأن العمال يستغلون تحت غطاء المقاولات، حيث التحكم في الإنتاج أكثر وبتكلفة أقل. هذه الأرباح الخيالية التي يجنيها أصحاب الشركات العملاقة، مالكي وسائل الإنتاج، ليس على حساب جماجم العمال وفقط، بل أيضا على حساب السكان المجاورين للمناجم وعلى على حساب البيئة أيضا؛ حيث تلوث الهواء والماء وتسمم التربة الناجمة عن الاستغلال الفاحش للمعادن، زد على ذلك الآثار السلبية للصحة العامة...
وهنا، نسجل بعض النقط من بين نقط عدة أخرى حول الأثر البيئي أو الأضرار الناتجة عن التعدين:
- تلوث المياه السطحية والجوفية وتسميمها بل فقدانها مع مرور الوقت لأن الآبار التي تستعمل في عملية استخراج المعادن وعملية الحفر تؤثر على مياه المنطقة؛
- تلوث وتسميم التربة، وجعلها غير صالحة للزراعة، نتيجة تسرب المواد الكيميائية التي تستعمل لتحليل المعادن وبالتالي تدمير وقتل النبات والحيوانات؛
- تدمير النظم الإيكولوجية والبيئية المحيطة بها؛
- انتشار الروائح الكريهة وتلوث الهواء، مما يؤدي إلى انتشار أمراض عدة يصعب معالجتها؛
- تآكل التربة وانهيارها مما يؤدي إلى عدم الاستقرار والتدهور في مواقع التعدين وفي المناطق المجاورة؛
- انتشار الغبار والجسيمات المنبعثة أثناء التعدين، مما يؤثر بشكل مباشر على الهواء والذي يؤدي إلى مشاكل في الجهاز التنفسي، ليس للعمال وفقط ولكن للساكنة القريبة أيضا؛
- إطلاق الغازات الضارة والسامة، وكمثال على ذلك ما يسببه استنشاق الكوبالت من مشاكل كبيرة في الجهاز التنفسي، ويؤدي لمس هذا الفلز إلى أمراض جلدية تسبب السرطان، حيث تصنف الوكالة الدولية لبحوث السرطان فلز الكوبالت ضمن المجموعة الأخطر بالاصابة بالسرطان. وتوجد الشركة المستغلة للكوبالت بورزازات، ويتم معالجته/تحليله بمراكش؛
- الضعف والتعب وهشاشة العظام وصعوبة المشي ومشاكل في الذاكرة ومشاكل في النظر وشحوب في البشرة...، كلها مشاكل يسببها تحليل النحاس، وهذا الأخير يتم استغلاله في مراكش (الدرع الأصفر، كماسة وكدية عيشى) وبودنيب وتارودانت ومنجم تويسيت بتيغزى؛
- الإصابة بسرطان القصبة الهوائية والرئة والمعدة والكبد إلى جانب الزيادة في تردد السل الرئوي و... ، كلها مشاكل تسببها تحاليل الذهب الذي يتم استغلاله بطاطا، زد على ذلك الغازات السامة التي تنتج عن طريق استغلال المعادن الأخرى كالفضة والزنك و... الخ.
هناك عدة غازات سامة ضارة َخطيرة أخرى مثل ثاني أوكسيد الكبريت واوكسيد النتروجين والتي تؤدي إلى الإصابة بالربو والتهاب الشعب وأمراض القلب والأوعية الدموية و...الخ.
على مستوى تغير المناخ، فإن عملية التعدين وما تقوم به الشركات العملاقة للمناجم يؤدي بشكل مباشر إلى تغييره والتأثير فيه، حيث تسميم البيئة الطبيعية وتدمير الغابات وانبعات الغازات وتلوث الهواء وتسميم الأرض والماء ...الخ.
هذا الوضع المتدهور والخطير الذي بسببه تموت وتدمر (بضم التاء) البيئة والإنسان والحيوان والمناخ في صمت مقابل أرباح خيالية يجنيها أصحاب الشركات العملاقة في كل ربوع الوطن، يزداد خطورة مع ازدياد مواقع الاستغلال، بدون حسيب ولا رقيب!
فمن هي يا ترى هذه الشركات العملاقة التي تستحوذ على هذا الإنتاج الضخم من المعادن على حساب حياة العمال؟؟ وكيف تستغل العمال في شروط عمل جد قاسية مقابل أجر زهيد؟؟ وأيضا، لماذا التعتيم على هذه القضايا المصيرية؟؟
كل هذه الأسئلة الحارقة سنتطرق إليها عبر سلسلة من المقالات المتتالية والتي ستتناول كل موقع من مواقع الاستغلال على حدة، والتي نحن بحاجة إليها، لتسليط الضوء على هذا الواقع المسكوت عنه والمخفي...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق